نحن الغاضبون من كل شيء ، وعلى كل شيء ، نحن المحبون لكل شيء ، المتعلقون بنا ، بالغياب ، والتردد ، والحروق ، نحن المزاجيون ، الفوضويون ، الطائشون ، المترددون ، المنهكون ، اللائذون ولو بسيجارة أو موسيقى أو سفرٍ بعيد ، أو بشتيمة ، أو بقهقهة ، أو سخرية من هذه الأرض السخيفة ومن فيها ، نحن هنا لنقول : لا نريد أكثر من أن نفتت صخرة الوقت .. سنحاول دوماً أن نحمي صدورنا من الضغائن .. " ألا فاللعنة على هذا العالم الوغد!



أسرار خاصة ..


" عمي هو حباب الخشبار ، ردحاً من الزمن وأنا أظنه والدي ، يأخذني برفقته حين يسافر ، كما يأخذ الكلاب والحمير وقطيع الإبل والماعز، وحين كان يزعق في وجوه أبنائه ، كان يزعق في وجهي أيضاً ، وعندما تسيل الزبدة على طرفي فمه ويغضب ، كان يضربهم ، ويفعل لي ما يفعل لهم ، وأزعم أنني لم المح في شاربيه الطويلين ، أية كراهية تجاهي ، أرعى قطيع الماعز مع أبنائه الثلاثة ، خليل ، وفراج ، وسويلم ، ولحسن الحظ فأنا أكبرهم جميعاً ، وإذا ما استدعت حاجة للاشتباك معهم ، كنت الوي معظم رقابهم تحت إبطي ، ولم يكن هذا ليزعج عمي ، بل أذكره يتطلع نحونا ويبتسم ، ولم ألاحظ أية نقمة في نظراته تلك ، بل واصلت نهجي ، بحيث أصبح هؤلاء الأخوة يخافونني على نحو واضح . وبينما كنت مستلقياً على ظهري أراقب النجوم وأعدها ، متأملاً في ليلة صيفية قل نظيرها ، اقتحم عمي تأملي قائلاً : " لقد كبرت يا سعدان ، ولم تعد رجلاك قصيرتان " . وضحك ، ثم جلس بجانبي ، واستغربت قربه لي فلم يفعل وأن اقترب مني . ثم قال : " اسمع يا ولدي ، أنا لست والدك ، والدك مات منذ زمن ، وأنت لم تزل طفلاً رضيعاً ، خفت عليك أن تضيع في القبائل ، وتصبح خادماً ، لهذا تزوجت أمك ، ولممت شملك بي ، هذه هي الحقيقة ، أما وقد أصبحت كبيراً، أحببت أن أخبرك كي أستريح ، أنها أمانة تطوق عنقي ، دامت كل هذه السنين ، والآن أنا مرتاح نعم ، مرتاح لأني أخبرتك بهذا بعد أن كبرت واطمأنيت عليك ، وأنا متأكد من أنك استويت رجلاً لا يشق غباره " .
هذا ما جرى في هذه الليلة القائظة ، وما أدهشني هو أن عمي حباب، قلما يكلمني ، وإن فعل فإن كلماته تكون محاطة بالقسوة ، التي تجعلني أرتجف وأنقبض في داخلي ، فرحت ، لأنه حدثني بصوت عادي يقترب من الهمس ، وفرحت أكثر لأن هذا الرجل ، ليس أبي ، لقد شعرت طوال تلك السنين أنه قد حتم علي محبة هذا الإنسان ، ببساطة شديدة لأنه أبي ، أما الآن فأصبح لدي خيارات أخرى ، أبهجني هذا النبأ ، وكنت مأخوذاً به لعدة نهارات أخرى ، وأصبحت أميل إلى الانعزال عن أبناء عمي، وعندما يضربونني كنت أسامحهم ، ولا ألاحقهم كما كنت افعل ، ولم أكن أستطيع فعل شيء أمام نظراتهم المحدقة دهشة في هدوئي المفاجئ ، فأضطر للابتسام لهم ومجاراة بعض ألعابهم أيضاً ، أصبح يخطر ببالي أن أتخيل والدي فأقول في نفسي : " إنه يشبه عمي تماماً ، لكنه لا بد يكون حنوناً وصوته أقل سطوة " ، والمربك أن النوم أصبح يخاتلني ، ويأبى أن يدخل فراشي ، فأسرح في دنيا متخيلة ، وغريبة أسأل نفسي : " لماذا خبأ عمي نبأ وفاة أبي كل هذا الزمن " ، هذا السؤال المربك والمعذب ومع أن جوابه قد لا يكلف عمي جملتين ، لكنني لا أستطيع تدارك أمري ، واقذف بسؤالي عليه ، رجل أشرف على تربيتي أعواماً كثيرة ، أوهمني خلالها أنه أبي دون هوادة ، بل أذكر أن عمي ينفق وقتاً كثيراً في التحديق بي ، أينما ذهبت ، ينظر في وجهي ، ويتحسس أكتافي بيديه ، ثم يأخذ بتبريم شاربيه النافرين ، وجه عمي كان مستطيلا ، ووجه أبي لا بد مثله ، هكذا أتخيله الآن بحرية ، وعيناه كانت واسعتين مثل عيني عمي، ربما فيهما بياض وصفاء يشبه الثلج ، أجل الثلج هو العلامة المميزة في عمي ، فكل عيون الناس كنت أشاهدها مغبرة ، ومصفرة إلا عيني عمي حباب ، أجمل سنوات عمري قضيتها برفقة هذا الرجل وعندما أتذكر ابتسامته الحانية أشعر بتأثر بالغ ، وتفاجأني حشرجة في صدري ، تحدث حفيفاً كحفيف الأشجار ، ولأنني قلما بكيت في حياتي السابقة ، عددت هذا التغير علامة بارزة في حياتي ، وعندما اقتربت الشمس من الأفق شعرت بألم بالغ في رأسي ، اضطررت حينها إلى الاستلقاء على الأرض ووخزتني شوكة في فخذي ، وأخرجتها على الفور ، تمددت وأصبحت أرى جزءاً يسيراً من الأفق وبعض الماعز ، خفق قلبي بعدها ، وأنا أشاهد قامة عمي مقبلة علي ، وقال : " أنت اليوم متعب يا بني ، يجب أن تستريح " ، واستراح هو أرضاً ، واضعاً منديله الأبيض تحت رأسه ، وتسنى لي رؤية خصلة من شعره الأشيب ، ولأول مرة أشاهد الشيب يلمع في رأس عمي ، وراقني أن أسأله عن هذا الشيب الجديد ، لكنني لم أفعل . بعدها وجدت عمي يعدل جلسته ويقرفص ، ففعلت مثله على الفور، وقال لي : " اسمع يا بني ، سأقول لك سر ، أنا أحببتك دون أولادي ، وربيتك أفضل تربية ، وأريدك أن تنفصل عني ، ربما تكون افضل حالاً مني ، أخاف أن أتركك معي فأظلمك ، أخالك أصبحت شاباً ، جزل العود ، وفيك قوة أكثر مني الآن ، إن أحببت أن أتركك أنا ، فسأرحل غداً ، وإن أحببت أن ترحل أنت فارحل .
قلت : " لا تقلق علي يا عمي . أنا سأذهب غداً ، وأتدبر أمري كما أردت لي وكما ربيتني سأبقى " . وكان صوتي لحظتها قد تغير ، أصبح غليظاً ، وكنت مصغياً جداً لصوتي . وفجأة وجدتني أحضن عمي حباب الخشبار وأبكي ، وأذكر أنه حاول أن يدفعني بداية ، لكنه لم يفلح في إبعادي، وعاودت احتضانه وتقبيل وجهه وأنا أقول : " أين أبي يا عمي !! ".

-محمود العزامي-

No comments: