وغابت .. حبيبتي ..
مشى دون أن يحدد وجهته ، تذكر أن عليه أن يراجع طبيبه النفسي كما وعده ، تلاشت الفكرة ، كان يأمل بساعات أخف وطأة . أنشأ يراقب الناس ، ويقول في نفسه : " ما أسعدهم !! لا بد أنهم ذاهبون لبيوتهم ولهم أطفال وزوجات ينتظرونهم ، أما أنا فلا ولد لي ولا زوجة ولا بيت " ، وأخذ يرسم في مخيلته بيتتاً غير موجود له وأطفال .
ينظر إلى جمهور المارة ، يلمح بقايا ابتساماتهم ، وآمالهم وأحلامهم، ويقول في نفسه : " أما أنا فلا ابتسامات لي ، ولا آمال ولا أحلام أيضاً " ، ويقول : " إن كائناً مثلي يجب أن يختفي على الفور .. " .. ولجت نوال إلى ذاكرته كسورة الفاتحة ، تذكر عينيها وفمها ، ثم هبط إلى ساقيها ، حتى وصل إلى قدميها ، تذكر مشيتها ، وتذكر أيضاً كيف خذلته ، وقتلت الأمل في قلبه ...
انتظرها آخر يوم في الجامعة طويلاً ، حتى رآها تدخل كلية الآداب، تلبس ثوباً أصفر ، هذا اللون لن ينساه أبداً ، حلق لها ، وتحلق حولها كنسر ، أومأت له بأدبها الرتيب أنها مستعجلة جداً وأرادت ، فقط أن تتأكد من برنامج الدراسة ، وتعود إلى البيت . لم يسألها أسئلة كثيرة ، كان يراقب وجهها أكثر مما يتكلم ، لم تفهم عطشه المتخلف ، لم تراع انفتاق تفاهاته لها، ابتسم لها ، وطلب أن يرافقها إلى الباب الرئيسي ، رفضت ذلك بأدب ، أحس رفضها آخر طعنة ساخطة توجه له ، ألح عليها ، وقبلت أن يرافقها إلى المكتبة فقط ، وصلا المكتبة دون كلام ، كان متجهماً كنورس ، بمحاذاة باب المكتبة ، طلبت أن يتركها ، أحس أن الطعنة تأخذ مكانها في قلبه ، ألح أن يوصلها إلى ذلك العمود كما أشار ، وتحت نبال إلحاحه سكتت ، حين وصلا العمود ، طلبت أن يفارقها على الفور ، أحس أن الطعنة تتفجر في قلبه ، قال: " أقصد ذلك العمود لا هذا " ، لم تتكلم ، بل انشطرت عنه بعيداً ، وبقي يرقب مشيتها حتى غابت بين زحام الطلبة .
تلك المرأة التي تعبت من الركض أمامي ثم استسلمت .
هربت منذ عامين . وحين أتحسس وجه ابنتي "شيماء" – فقط – أتأكد أنها كانت هنا حقيقة قائمة .
-محمود العزامي-
Labels:
مجلة فوضويات-العدد الأول
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment