غراب عدن
لعل أسمه بيتر .. ربما كان مارك ، أو تشان لينغ .. من يدري ؟ .. هناك بحار ذو سحنة لا تشابه سحنات رجالنا على أية حال يجذب في هذه اللحظة حبل شراع القارب لينتفخ كالبالون ويتجه مسرعاً صوب ساحل عدن حيث أقف الآن تماماً.. حافي القدمين.. خاوي الروح، مستسلما بهدوء غريب لنبضاتي التي تمعن في تباطئها وكأنها تتواطأ مع تقهقر الألق والحياة إلى أعماق سحيقة لا أعيها، ربما في أغوار روحي أو في أعماق البحر الذي أرسل لقدمي موجة رقراقة باردة دفعها قارب بيتر أو مارك أو ربما تشان لينغ.. نعق الغراب قربي مرة أخرى فارتفعت عيناي لتواجها شمساً تتمطى خلف غمامة كسلى.. وتحتهما يحوم الغراب حاملاً في منقاره قشة صغيرة، شعرت بأن ملايين الغربان قد تجمعت حولي لتنعق ضاجة بضحكات الهزأ الغرابية.. انهمر جسدي ـ كما الأمواج ـ على الحافة الرطبة للساحل.. تسرب البرد إلى عجيزتي فشعرت بشئ من النشوة.. أية غرابة؟ .. ما هذه النفس المدهشة التي تنتقل من يأس إلى متعة إلى قنوط إلى نشوة بسرعة أكثر كثيرا من سرعة الأمواج القادمة من القارب الشراعي لبيتر أو مارك أو ربما تشان لينغ.. صدحت حولي ضحكة امتزجت مع ضحكات الغربان الناعقة ثم انسلت من بينها لترتقي فوقها وتدفعها بيسر غريب إلى حناجر الغربان التي خلدت للصمت ، ترددت بعض الكلمات بلغة أجنبية، ترجمت حواسي ما قاله الصوت الأجنبي الغريب لكني لم أعرف مصدر الصوت أو جنس اللغة.. خمنت بأنه ربما كان بيتر أو مارك أو ربما تشان لينغ، قال الصوت الضاحك:
ـ إذا كنت تبحث عن حلم فابحث عن الحلم المناسب..
تلاشى الصوت منسحباً مع موجة كانت قادمة من العمق وتلاشت تحت قدمي تماماً.. عادت الغربان للضجيج، واضطجعت مستسلماً لاختراق خيوط الشمس الدافئة وقطيرات الأمواج الناثة وزبد البحر ورماله الناعمة لمساماتي التي صارت تتسع لتغدو بوابات تفضي جميعاً إلى جسدي الذي يبدو انه قد قرر التحول إلى شئ ما بآلاف البوابات، شئ لا أعرفه لكني متأكد من انه لم يكن مدينة أو بلاد، ما إن أغمضت عيناي حتى رأيت صورة مغبشة لجسدي وهو يجرجر صخبه وضجيج دواخله بسكون وهدوء غريبين على ساحل خال سوى من أمواج البحر القادمة من الضفة الأخرى للعالم.. كنت كالآتي إلى حتفه..
ـ ألم أكن كذلك ؟ ..
فكرت باستسلام كسول.. نعم .. كنت محاطا بالغربان التي تنعق ضاجة بضحكات الهزأ، لا شئ بدا يسيرا لي، سوى هذا الشاطئ الذي احتوى قدمي الحافيتين، استسلم لوطئهما الثقيل وأتاح لي فرصة طبع قدمي وآثار أصابعي العشرة على الرمل الأسمر، تنزاح من فوقهما موجة لتمتد إلى حيث انهمرت غامرة باردة بعيدة ، تضمر ملحها..
ـ لماذا تصر الأمواج على التشبث بملحها، حتى إنها لا تمنح الزبد سوى ما يوحي بالمقت والازدراء.. لا أحد قادر على ازدراء الملح..
لم يعد لي ملاذ سوى البحر.. فأنا وحيد في عدن.. كنت أحمل كتاباً صغيرا ابتلت صفحاته وكثيراً من البؤس في داخلي.. قال لي سطر من اسطر الكتاب:
ـ البحر قادر على أن يغسل كل الأدران ..
ربما كانت أدراني بالغة الضآلة لكني أردت أن أغسلها كما يتخلص المسئ من ذنوبه بالاعتراف بين يدي الكاهن، فليكن البحر كاهني وسأعترف.. سأعترف لأني بحاجة ماسة لذلك.. وكنت سأفعل إن عثرت على أذنين صاغيتين لكني طالما كنت وحيداً وها أنذا وحيد كذلك في عدن، لا رفيق لي سوى هذا الغراب الذي أصر على ملاحقتي، لا أدري إن كان يتخيل ما ستؤول إليه نهايتي، أو ربما يريد أن يبشرني بنبوءات لا أجهلها.. أو لعله جاء ليحذرني، كائن أسود صغير، يكرر نعيقه ويحوم حول رأسي، يحط قربي أحيانا، ليس قربي تماما، إذ لم يبارحه الخوف والحذر، لقد أدرك بأنني منهك تماماً.. يبدو هذا من خلال جرأته في الاقتراب من جسدي المسجى كصخرة على الشاطئ، لكني ما إن أحرك يدي بتكاسل حتى يرفرف جناحاه مبتعدان قليلاً ثم يكرر العودة، كانت جدتي تقول بأن نهاياتنا يحملها غراب أسود.. ما أن ينعق حتى تتلبسنا فنستسلم للموت، ها هو ذا ينعق إذن؟ هل هي النهاية؟ .. مدينة تبعد عن بلادي آلاف الكيلو مترات، بركان خامد لم يمنع خموده من أن يطوح بأحلام رامبو ويجذبه من أحضان عشيقته الزنجية التي باعها مع من باع في آخر وجبة من العبيد، ثم يسلمه لموت ساذج أسرع بحبسه في قبر ضيق معتم كان أوسع قليلاً من جسد رامبو الذي صار قبراً لعبقريته، هل جئت لأشهد دفنه أم دفني؟ .. ما الذي يبحث عنه هذا الغراب قربي؟
كوّرَ بيتر أو مارك أو ربما تشان لينغ الشراع الكبير موجهاً السارية نحو ميناء عدن الذي بزغت قمم جباله الجرداء.. ارتسمت ابتسامة ظفر محببة على شفتيه.. نظر حوله، فازداد زهواً.. ها هو ذا ينتصر للمرة الألف على بحر شاسع بقارب صغير لم يحو سوى جسده وبعض الأشرعة.. وأطعمة باردة لا تثير شهية أحد.. فكر بسعادة لا تضاهى :
ـ حين تكون منتصرا على نفسك والبحر.. تستطيع أن تعرف الناس أفضل..
لم أر بيتر أو مارك أو تشان لينغ هذا، ولست متأكدا إن كان موجوداً حقاً إلاّ إن صوته يتسلل لي مرافقاً المويجات والغمامات، انه وحيد في بحر شاسع، وأنا وحيد في عدن، وصنعاء وبغداد.. لكنه يواصل انتصاراته وأواصل انطفائي.. هناك ثمة خلل.. ما الذي يجري؟ .. أ تراه يعرف خط سيره بينما لا أعرف موضع خطوتي إلاّ بعد أن تلوكها سخونة المكان أو برودته أو وعورة أحجاره؟ .. يبدأ بيتر أو مارك أو تشان لينغ اكتشافاته حين يقرر ذلك وأبدأها حين أجدني قد انغمرت في أسن عذاباتي القادمة، ما الذي يجعل من اكتشافاته انتصارات واكتشافاتي ألم ممض يفضي إلى ألم أمض؟.. يكرر الغراب النظر لي فيخيفني، ما الذي رآه بي، حقا أنا خائف.. لم ينظر لي بعينيه الصغيرتين إلاّ لحظات وفمه ممسك بقشة، لم تمنعه من النعيق أو النظر إليّ وكأنه يقدم لي قشته، ما الذي يريد أن يقوله الغراب؟ .. آه لو كنت أفهم، تقول الطيور أشياء كثيرة، إنها ترى من الأعالي، ترى ما لا نراه، وهذا البحر القادم من نهاية بعيدة.. أستقر تحت مؤخرتي فصرت أرى نهايته جلية رغم إرهاق عيني وبعدها.. إنها بداية لمن يجلس مثلي على الجانب الآخر،
ـ في أي جانب أنا؟ .. أين أنا من نفسي ؟ ..
رن الهاتف ، رفعتُ السماعة ، قالت :
ـ أدركت بأن المكان قد حوّلّكَ إلى كائن غريب ،
ما زالت عباراتها تطن في أذني مذ قررت أن أغادر صنعاء قبل أيام.. هل هذا ما تراه أم انه أنا فعلاً ؟ .. لماذا تقول ذلك؟.. شعرت بالغضب لحظتذاك، وددت أن أصرخ بوجهها أو أحطم الهاتف لكنني نظرت إلى يدي التي كانت ترتعش انفعالاً فشعرت بألم حاد ، إنني آخر بالفعل، هل نحن ظهور مطأطئة لجلد المكان، إنها تتهمني بذلك،
ـ المكان حوّلَكَ إلى كائن غريـ..
غريب؟ .. من أنت لتقولي ذلك ؟ .. كنت سأصرخ في وجهها ، لكنها لم تكن أمامي ، كانت على الجانب الآخر من الهاتف ، ربما كانت في بيتها أو في مكان آخر.. هي تعلم بما ستفعله كلماتها ، لكنها أرادت أن تؤلمني ، أرادت ذلك فعلاً ، ربما لترد على إيلامي لها .. فقد وصفتها بالممثلة ، لكنها كانت كذلك، إنها كائنة جميلة وبراقة، لكنها تنزع إلى أن تكون شيئاً لا يعرفه الآخر، تحاول دوما أن ترسم ملامح لا تعنيها، تتقمص أدوارا ربما كان بعضها موغلاً في الجرأة والشراسة لكنها تتماهى فيها وتؤديها على أفضل وجه.. لطالما قلت لها ذلك، فما الغريب إذن إن ادعيت معرفتي بها حقيقة؟
يزداد بيتر أو مارك أو ربما تشان لينغ اقترابا من عدن.. تزداد مويجات البحر القادمة من الجانب الآخر من الأرض فتغمر قدمي موغلة في الارتقاء بتدرج مخيف آسر.. يزداد الغراب اقترابا، نظر لي، نظرت له، بدا صامتا، بدوت مفتتا، هل من المعقول أن يؤثر بي المكان إلى هذا الحد؟.. كان فضاء صنعاء طوقا أحاط بعضا من سنواتي الخمسة والأربعين التي غدت حبلا يلتف حول رقبتي.. يضغط على حنجرتي، يزهق روحي تدريجيا.. لطالما تصورت بأني سأنجز شيئا كبيرا، لطالما كانت أمي تراني النبي القادم إن قيض لهذه الأرض نبي جديد، لطالما كان يراني رفاقي طيبا بينما كنت أقبض على أنامل الشيطان في داخلي وهي تود أن تغادرني لتعبث، أتراني كنت سأعبث بها؟ .. لقد تواطأت مع نفسي وتواطأتْ مشاعري معي لأستوعب حقيقة واحدة لا مراء فيها، وهي بأني وحيد وبحاجة ماسة للرفقة، بحاجة أكيدة للحنو.. كنت أبحث عن أي حنو.. ظننت للحظة بأنها قادرة على أن تكون ذلك الصدر الحاني، لكن الطفل المتربع في داخلي لم يستوعب بعد بلوغه الخامسة والأربعين، ضج تطلبه وألح احتياجه، كنت أريد.. لكن، هل يحق لي أن أريد ؟ ..
ـ لا أدري أين كنت طوال خمسة وأربعين سنة؟
همست للموجة التي استلقت على بطني قليلا ثم انسحبت مسرعة .. ويبدو إنها نقلت كلماتي لمن كان بيتر أو مارك أو تشان لينغ ، فقد ضج البحر بالضحك الذي رددت الغمامات أصدائه ارتجاجاً أوشك أن يوقظ الشمس من إغفاءتها.. انهمرت فوقي كلمات هازئة كالمطر من أقرب الغمامات إليّ..
ـ استغرق أتونابشتم أربعمائة وخمسون سنة ليبني قارباً أنقذ به البشرية من الانقراض
نهضت مصعوقاً بينما انتفضت جميع المسامات الآخذة بالتوسع لتتجاذب متلاصقة وطاردة مسارب الموج والزبد ورمال الشاطئ بل حتى بيوض الحلزونات.. شعرت بأن جسدي يعيد تشكله لأنهض دونما تثاقل ..
ـ ربما عليّ بناء سفينتي لأنقذ البشرية ..
فكرت بغتة فرسمت شفتان غريبتان على الموجة القادمة ابتسامة جذلة ينط من زواياها المرح، ابتسمتُ.. ابتسمتُ .. ابتسمتُ حقاً هذه المرة .. لم تكن عدن بعيدة .. حط الغراب على كتفي دون أن يشعر بالخوف.. نقر رأسي غارساً قشته الوحيدة .. وأسرع بالابتعاد في فضاء بدا لعيني ساحراً ..
أسعد هلالي / عدن
Labels:
مجلة فوضويات-العدد الثاني

غريب أن تهيم في الضباب!
دغل وحيد، حجر وحيد،
لا شجرة ترى شجرة أخرى،
والفرد وحيد تماماً.
كان العالم مليئاً بالأصدقاء،
مثلما كانت الحياة سهلة لي،
لكن الضباب جاء الآن،
ولم اعد أرى أحدا.
حقاً، لا أحد يمتلك الحكمة،
ممن لا يعرف الظلام
الذي يفصله عن الآخرين
بصمت وبشكل محتوم.
غريب ان تهيم في الضباب!
الحياة عزلة
لا أحد يعرف الآخر،
والفرد وحيد تماماً.
-هيرمان هسه-
الصورة اختيار الفتى هنري
Labels:
مجلة فوضويات-العدد الثاني
للذي يتكاثر كالملح
للحب
للروح في خانة الصفر و الانبياء ...
لغبار الملائكة المتعبين
و غيم الشوارع
حافيةٌ كل أنثى
و كل الرجال صغار - كأحلامهم -
و الطفولة تمسح عن جبهة الأرصفة ..
ما تكدس من عفة الشجر
المتلاصق كالجسد البض
كالوطن المشمئز من العَـلَم /
الناس/
و الملك المتحجر
و الغبطة المغربية
للحجر الأسود المتكوم في عين أنثى
تحب الرجال ...
سأمر هنا
سوف أنثر أسماءكم
كبياض السماوات في ليلة العيد
في الليلة الذهبية
للموت في قامة الآلهة ...
سنمر جميعا كآثارنا في المدارس
في الحارة المبدئية
في عين جارتنا
و عيون الرجال الذين يبعون أجسادهم
للمباني / البغاء المشابه
للطوب
للرمل
للنيكوتين ...
سنمر جميعا
و احملكم في سلال من الخوص و الورد
أنثركم في دمي
قلقا أسودا
رغبة دائمة ..
سنمر هنا !!!
-ميزو-
Labels:
مجلة فوضويات-العدد الثاني
أُقسم
أني تلقيت في صميم وجهي بركة الشمس
عندما الأشجار مُثقلة من فوق
واللون مبتدئ.
عندما العالم يخطو أولى خطواته.
في اليوم التالي لليل.
الهواء قسمة حبّ واحد.
الأرض التي تخفق في صدري لها شكل صحراء
هناك ماء خارج الجدران
ماء يلاحظ الوحدة في الوقت المحدد للعودة.
أقسم بالريح المدبّق بالمْسك.
بالرمل الناهض جيوشاً.
بقبلة السماء المفتوحة.
بالتراث الذي يُلغيني..
ناديا تويني
Labels:
مجلة فوضويات-العدد الثاني
لأنني أثق بالريح , كنت ُ ,,
لا أبالي أيا كانت الطريق , و لن أفكر كثيرا
سيمتصون أصابع أرجلهم , و أكون
سيخرقون مكيفات السيارات , و أكون
سيشربون العصيرات الخالية من الغازات, و أكون
سيبتعثون إلى الخارج , و أكون
سيتزوجون , و أكون
سيمضون نحو الشيخوخة , و أكون
ستكبر مؤخراتهم و يلتصقون بالكراسي , و أكون
سيعبئون الأرصدة , و أكون
سيأتون إلى الشوارع الخلفية , و أكون
سيضاجعون زوجاتهم في غرف فارهة , و أكون
سيسهرون حتى الفجر الأخضر , و أكون
سيبدلون ملابسهم بالثياب العربية , و أكون
****
كيفما كانوا ,,,
و أكون / أكون ,,,
-ميزو-
Labels:
مجلة فوضويات-العدد الثاني
Subscribe to:
Posts (Atom)