نحن الغاضبون من كل شيء ، وعلى كل شيء ، نحن المحبون لكل شيء ، المتعلقون بنا ، بالغياب ، والتردد ، والحروق ، نحن المزاجيون ، الفوضويون ، الطائشون ، المترددون ، المنهكون ، اللائذون ولو بسيجارة أو موسيقى أو سفرٍ بعيد ، أو بشتيمة ، أو بقهقهة ، أو سخرية من هذه الأرض السخيفة ومن فيها ، نحن هنا لنقول : لا نريد أكثر من أن نفتت صخرة الوقت .. سنحاول دوماً أن نحمي صدورنا من الضغائن .. " ألا فاللعنة على هذا العالم الوغد!



صديقي رجل

في كل ليلة.....وفي الساعة ذاتها...
أدخل للمقهى....، حيث رائحة السجائر منتشرة، تحلق حول الرؤوس
امرأة، تشرب الشاي وتتصفح الصحيفة....
مراهقة تلعب بخصلات شعرها، تلوك العلكة بين أسنانها، تنفخ وتنفخ وتنفجر الفقاعة الوردية، تحاول بيدها عابثةً أن تزيل هذا الالتصاق المقزز...
شاب في العشرينيات يدلف من الباب، ويبدأ بعينيه باحثاً عن أي صديق...
رآني ولقد جلست على كرسي، يقترب مني مهللاً ويسحب الكرسي ويجلس أمامي وابتسامة الفرح تشرق من وجهه...
يستفهمني عن حالي؟.....فأهز رأسي بنظرة رضا.....
يصيح بالنادل:
" قهوة.....أريد قهوة........................أتريدين واحدة؟ "
اهز رأسي بالنفي، وانطق باقتضاب:

" يكفي العصير "

يصيح مرة أخرى:
" قهوة وعصير..............واحضر لي ولاّعة أو علبة ثقاب لأشعل بها سيجارة "

اعقد حاجبيّ بانزعاج:

" أمقتها، ما بال اشتهائك للدخان الآن...؟ "

" أستلذها...ألديكِ مانع يا فتاة!؟ "

انظر إليه وأنا استنكر هذه اللهجة الصارمة، ولكن في داخلي تربت الشرايين على عروقي، لِتُطَمئْنَنِي أن صديقي المعتاد هو ذاته أمامي...فأحدق به بارتياح:
" لكَ ما تريد "
يقول بفخر:
" فتاة مطيعة.....ابقي هكذا، حتى تنالين رضاي الملكي "

" سمعاً وطاعة يا صاحب الرأس "

" هيييييييييّ!، أعاد الجنون "

" ألم تعلم أنه وُلد معي؟ "

" نعم! نعم، والغباء ذاته في اليوم نفسه!! "

ألقي رأسي للخلف بضحكة عالية وأحدثه:

" إن اقتصر الأمر على الغباء...فلقد ورثته منك "

" وأية رابطة دمٍ تربطنا يا غبيّة! "

أجيبه والضحك مازال يداعب شفتي:

"إنها وراثة بالصداقة يا أخ!، بِتُّ مثلك دون أن أدري!!!،، ألا يكفي أن أقابلك كل ليلة هنا، وبعد أن تستعرض أمامي عضلاتك الأدبية، تنظر للساعة وإلى ذات النور الساطع....فتتلألأ عينيك وترتدي لباس الخروج، وتغادر تاركاً لي بقايا رائحتك "

" وما أجملها من رائحة!! "

بتهكمٍ أجيبه:

" اصمت، اصمت، لَكَمْ تستمتع في التهريج أمامي، وعندما أتعلم الدرس الأول من الابتسامة منك، تسارع بالانبلاج مع النور، فتتأبط هي ذراعك وترافقها إلى قاعة الأصوات، حيث تتبادلان عبارات الغرام والهيام، وتستمتع بلثمها ومعانقتها، وها أنا أبقى على المقعد ذاته أراقب الوجوه عبر الدخان، أحادث تلك واشتم ذاك، أضحك مع هذه، وأسخر من هذا، وعندما يستند القمر على حائط السماء متعباً، وتبدأ الشمس بمحادثة القمر من خلف الحائط وتهمس له بأن يصبر على حمل الباقي من الساعات الأخيرة، لتجهز هي للتربع على كرسي النهار، وعندما تنهض تلك المراهقة وتخرج مع صديقها الشيطان، وتخرج المرأة من المقهى لتقابل الرجل على مسمع هذيان القمر المتعب، وعندما أبدأ بسماع بكاء طفل من مهدٍ أبيض صغير، وانصت إلى مناغاة والدته، وصوت ضحكة توقظ القمر، فيبتسم عنوة ويضيء الباقي من الليل بهذه الابتسامة، حينها، تتراءى أمامي مرهقاً، متعباً،، وعلى وجهك " الحب " ، تترنح في جميع الاتجاهات،وتلقي بجسدك المنهك أمامي وتبدأ بالغناء وتكرار كلمات عبد الحليم والعظيمة فيروز، وتنظر إلي وتعتقد أنني النور الذي انطفأ الآن مع رحيل البدر! "

يرفع حاجباً ويصيح:
" يااااااااااااااااااه !!!، منذ متى بدأتِ بدفن هذه الأحداث؟ "

" منذ أن هجرتُ أراضي المحبين، وتشردت بين أرصفة أتسول الحب، واتخذت قراري أن أحاول أن " أرتاح "، منذ أن بدلت العناوين وغيرت تلك الطرق التي اعتدت المرور بها، منذ أن عادت إلي الدمعة، وحاصرتني الأحزان، بعد أن امتلأ جسدي بالجراح إثر الحرب التي خضتها،،
والآن قلبي فارغ، كورقة بيضاء، كقلب وليد، بدأ يتعلم الآن النبض،،
فليحادثني جميع من في المقهى، وليلقوا علي السلام، ليشتكي إليّ العاشقين، ولتبكِ العاشقات على كتفي، أتقن الاصغاء، ولكني لا أتقن الحديث، أتقن الشعور بالمشاعر الجمّة، ولكني لا أتقن تمثيلها، أتقن خلق الكلمة على الورقة، ولا أتقن خلق الفعل على الواقع،، مازلتُ أتعلم...
وصدقاً.......لقد علمتني الكثير "

ينظر بتعجب:

" أنا؟؟، أبعد كل هذا الحديث المصطبغ بالسواد، تقولين لي بمكر أنني علمتكِ الكثير!؟ "

" يا صديقي العزيز،،، تيقن أنك تعرف إلى أين تنظر "

يقترب النادل، ويضع كأس العصير أمامي، و علبة ثقاب...
يضع السيجارة بين شفتيه، ويضع رِجلاً على رِجل، ويمسك علبة الثقاب، ويرميها علي، ويقول:
" اشعلي السيجارة لي "
أتأفف بضيق، وأُخرِج عود الثقاب من العلبة، وأشعله وأقربه من عقب سيجارته:
" هل تستمتع بتنفس هذا الهواء.........غريبٌ أمرك يا صاحبي "

تحمّر السيجارة، ويأخذها بين أصبعيه وينفث:
" لن أحرم نفسي، من أمرٍ اعتدت القيام به برغبة "

أتنهد بعمق، وأتناول الكأس في يدي...

اسرح أنا ببضع رشفات من كأسي المنعش، ويسرح هو ببضع زفرات من دخانه السام...

عينيّ تحدقان بعينيه، ويجفل فجأة وينظر إلي وينطق بمزاح:

" ما بال المرآة تعكسني ؟ "

تتسع عيني وأكرر كلمته:

" مرآة؟؟؟؟؟؟ "

"نعم، مرآة،، ثقِ يا عزيزتي، وإن تخالفنا على الدوام، إلا أننا نجتمع في نقاط عديدة والمرآة تفضحنا "

" أية نقاط يا مجنون!؟ "

" أنتِ المرآة...وأنتِ مركز النقاط جميعها، لنقل أنكِ البؤرة، وأنا الشعاع المتجمع في داخلها "

" ما أصاب كلامك من علومٍ أنا أدرسها...؟ "

يضحك ويقول:

" إذاً، سأخبرك عن الذهب الأسود الذي أدرسه،، وأنكِ تنتمين لأرضٍ غنية بكنزٍ طبيعي، هل أنتِ معي؟ "

أجيبه بتردد:
" نعم....تابع "

" حسناً...لنقل أنكِ الكنز الطبيعي، وبما أنَّ خلايا أدمغتنا متشابهة، فأنا الذهب الأسود الذي يساوي الكنز في مقداره........فقد يختلفان في الشكل واللون...إلا أنهما واحد....فإن ذكر أحدهم الذهب الأسود، تبعه بصديقه، تبعه بانعكاسه، تبعه بانسيابه العكسي "

أطلقت آهةً إدراك لقوله، وصفقت له وضحكت:

" هنالك الكثير من الآبار المستترة فيك يا صديقي العزيز "

يُخرج ورقة بيضاء من جيبه مطبقة على بعضها، يفتحها ويضعها على الطاولة، يستنشق دخاناً، ويزفره بتنهيدة عميقة تحيط بنا...

يرمي بقلمٍ على الطاولة، ويسألني:
" أتذكرين تلك الكلمة التي اعتدت قولها لي، عندما تثملين من كأس الثرثرة؟ "

أضع يدي على جبيني، ولوهلة أتذكرها وأنطق نصفها:

" أتقصد (( ربـ...)) "

يشير إلي بيده:

" تس، تس، تس،، إياااااااااكِ أن تنطقيها يا بنت! "

اكتم ضحكة وأنا أفكر بهذه " التستسة " التي اعتاد أن ينفي منها، إنها توحي لي بإطار سيارة يصفر الهواء بضيق...

يخبرني:
" أتذكرين الصورة، التي صورتها لكِ عندما تنطقين بها؟ "

أهز رأسي أن بلى

" ارسميها لي "

" ماذا؟ "

" يبدو أن الكِبرَ قد تمكن منكِ، فأمارات التعجب تدفعك للاستفهام في كل جملة أنطقها،.....ارسمي الصورة وكفى "

أمسك القلم بيمين تعجب، يصيح بانزعاج:

" لا، لا....ليس هكذا "

يلقي بما كان في شفتيه ويطفئها على الطاولة بلا مبالاة، ويقترب مني ويضع يمينه على يميني
" ابدأي من هذه النقطة وتحدثي وأنتِ ترسمين "

احمر وجهي، وبدأت ارسم ويده على يدي وقلت وأنا ارسم خطاً طويلاً:

" جدار يُرسم، جدار لمدرسةٍ قديمة،، عاشت في أيام والدك ووالدي، وربما زارتها أمك يوماً وربما تحدثت عنها أمي يوماً "

قاطعت بضع خطوط ببعضها وأردفت القول:
" تشققات تحكي لنا عن أسرارٍ رُسمت على هذا الجدار، طلاءٌ بهت من ماضٍ اندثر في سجن الزمن"

أجساد أرسمها، وملابس وخصلات شَعر:
" صبية، لا أحد يعلم من أين جاؤوا، استندوا على جدار المدرسة،، ملابسهم رثة،، ممزقة، يتغامزون، يضحكون، يثرثرون، يشربون غازيات تضر بأجسادهم النحيلة، وأكبرهم يدخن سيجارة، أحذيتهم الملطخة بالطين تبصم على البلاط المتكسر على الأحجار المتبعثرة هنا وهناك"

يبتسم صديقي ويطلب مني المتابعة، تشوب عيني لمعة فرحٍ يتيم وأرسم دائرة في زاوية:
" وهذه كرة، زَفَرت الهواء من رئتيها،، تنطبق على ذاتها،، ألقوا بها، بعد أن تلقت الركل من أقدامهم القذرة،يا إلهي!!، من الصعب أن تموت بعد ركلٍ وضرب،و مُداساً أيضاً!! "

" وهنا،، صبي يمسك بيده زجاجة مليئة بسائلٍ ملون، يقوم برش الجدار بها ويخط بالرذاذ الأحمر عبارة

(( المشــــردون خلف المدرســـــة )) "

وهنا كنت أُسقط قطرات النقط على الكلمات....

يرفع صديقي يمينه عن يدي، ويصفق ويقول بقهقهة:

" هذه هي تماماً الصورة التي أراها عندما تنطقين بتلك الكلمة "

يحمر وجهي، ولا أقدر على منعي نفسي من مجاراة ضحكته

ومن نافذة المقهى، يتجلى النور، ينظر صديقي بسرعة للنور

فينهض مودعاً، ويخبرني:

" لقد قدم النور، وها أنذا ذاهبٌ إليه لأسهر الليل بطوله مع ضوءه الساحر..."

أرفع رأسي إليه وشفتي تبتسم بنصف ابتسامة:

" ما حيلتي، إن كان النور يناديك، اذهب يا صديقي، فلقد اعتدت على مغادرتك عند لحظة تعلم الابتسامة "

يهز رأسه آسفاً ويقول:
" سأعود عندما يتعب القمر "

ويحتضن وجهي بيديه ويقبل جبيني، ويجري خارجاً للنور، وفور خروجه، اختفى النور...فعلمت أنهما قد غادرا...

ارشف الباقي من عصيري وأتنفس رائحته وأحاول الابتسام ولكني أفشل
تمر الساعات، وعندما غادرت المراهقة مع الشيطان، وخرجت المرأة لتقابل الرجل، وبعد أن ضحك الطفل وغفا
وأُقفل المقهى
وخرجت مطأطأة الرأس وحيدة كالعادة
رفعت رأسي لأرى القمر المتعب، فتفاجئت أنه الليلة انمحق...

مالت شفتي قليلاً وسلكت طريق العودة.........العودة إلى الواقع.


-دمية-


No comments: